الدين والمذهب: من بريطانيا إلى سورية

الدين والمذهب: من بريطانيا إلى سورية
بقلم : محمد هارون
يعتقد البعض أن الدول الغربية فصَلت الدين تماماً عن الدولة، لكن الحقيقة أكثر تعقيداً. خذوا بريطانيا مثالاً، حيث لا يمكن لأي شخص أن يعتلي العرش ما لم يكن بروتستانتياً أنجليكانياً، وذلك وفقاً لقانون "تسوية العرش" لعام 1701. وحتى بعد التعديلات الأخيرة، مثل "قانون خلافة التاج" لعام 2013، الذي سمح لأفراد العائلة المالكة بالزواج من كاثوليك دون أن يفقدوا حقهم في العرش، يظل الملك ملزماً بالانتماء للكنيسة الأنجليكانية، ويُتوّج خلال مراسم وطقوس دينية في الكنيسة.
هذا يعني أن المذهب الديني لا يزال مُحدِّداً قانونياً لمن يحكم، رغم كل الحديث عن العلمانية. فإذا كانت الملكية في بريطانيا، رغم أعرافها الديمقراطية العريقة، لا تزال تشترط مذهباً دينياً للحكم، فكيف يُطلب من مجتمعاتنا تجاوز الدين تماماً في السياسة بين ليلة وضحاها؟
في سورية، لم يكن الدين يوماً بعيداً عن السياسة، سواء عبر النظام المخلوع الذي استغل الرموز الدينية لترسيخ سلطته، أو من خلال بعض الحركات السياسية التي طرحت نفسها بطابع ديني. وبعد سقوط النظام، تصاعد الجدل حول شكل الدولة المقبلة: هل تكون علمانية أو مدنية، أم تظل الهوية الدينية جزءاً من بنيتها السياسية؟
الحقيقة أن سورية لا يناسبها نظام علماني يلغي الدين من الحياة العامة، ولا يمكن أيضاً أن تُدار بمنطق ديني في مجتمع متنوع ومعتدل. الحل الأمثل يكمن في دولة مدنية، حيث تُبنى القوانين والتشريعات على أسس وضعية مستمدة من إرادة الشعب، مع بقاء الفقه الإسلامي أحد مصادر التشريع، دون أن يُفرض على الجميع. الانتقال إلى الدولة المدنية لا يعني إقصاء الدين، بل وضعه في مكانه الطبيعي — كمكوّن ثقافي وروحي يُحترم، لا كسلاح في صراعات السلطة. و بهذه الصيغة تكون الدولة قد احتوت الجميع مع الأخذ بعين الاعتبار هواجس ومخاوف كل مكونات المجتمع.
كيف يمكن تحقيق ذلك عملياً؟
1️⃣ الإعلان الدستوري
يجب أن يشير الإعلان الدستوري إلى مدنية الدولة مع بقاء الفقه الإسلامي أحد مصادر التشريع، بالإضافة إلى قوانين الأحوال الشخصية لكل مكوّن وطائفة، إلى جانب القوانين المدنية المستمدة من إرادة الشعب.
2️⃣ القضاء المستقل
إنشاء هيئة قضائية مستقلة، بعيداً عن أي سلطة سياسية، لضمان الفصل بين السلطات.
3️⃣ الجيش والأمن
إعادة هيكلة الجيش ليصبح مؤسسة وطنية محايدة، لا تخضع لأي حزب أو طائفة، ويُمنع تدخله في السياسة.
4️⃣ الهوية الوطنية
تبنّي خطاب وطني يعترف بالتعددية الدينية والعرقية، ليشعر كل مواطن أنه جزء من سورية الجديدة. وتعزيز مفهوم "الولاء للوطن" عبر المناهج التعليمية ووسائل الإعلام، لا الولاءات الدينية أو الطائفية.
5️⃣ مشاركة المجتمع المدني
منح منظمات المجتمع المدني حق مراقبة العملية السياسية والمساهمة في صياغة السياسات العامة. و تنظيم حوارات وطنية حول العلاقة بين الدين والدولة، لتوضيح أن الدولة المدنية لا تعني العداء للدين، بل تحميه من التسييس.
شخصياً، ما أتمناه هو دستور عصري توافقي، يحميه قضاء مستقل لا يخضع لأي سلطة، وجيش وطني يحمي البلاد والشعب والدستور، لا أن يكون أداة في قبضة الحكام للاستئثار بالسلطة. وعندما تتحقق هذه المبادئ بشكل حقيقي وشفاف، فليحكم عندها من يحكم، بغض النظر عن دينه أو مذهبه، ما دام يحتكم إلى الدستور ويخدم مصلحة الوطن.
سورية الجديدة تستحق نظاماً سياسياً يحتضن الجميع، حيث الدين يُقدّر، والقانون يُحترم، والوطن يسمو فوق الجميع.