الإخــراج

الإخــراج "قصة قصيرة للدكتور عبدالحق الهواس.

الإخــراج
الإخراج "قصة قصيرة للدكتور عبدالحق الهواس

أخذه الإعجاب الإنكاري وراح يتساءل عن سر ّ هذا المحلل البارع إذ لا يعجز عن الإجابة مهما كان السؤال محرجا فلديه قدرة عجيبة في اللف والدوران حوله... يقلب له الكلمات كيفما يشاء كأنه آلة مبرمجة، فلا تقاسيم للوجه ولانعكاس للحياء أو الخجل؛ تراه يسير نحو الهدف المرسوم كلاعب سيرك واثق الخطوة ...

 من اختار هذا ؟!! من أخرجه على شاشة التلفاز؟!! ...شعر بخليط من الاختناق والظمأ والتمزق وبعض التمرد... تشابهت أمامه الصورتان ... عشر قوارير من المشروبات الغازية المتنوعة تصطف مثل جنود حرس الشرف، وكلها رهن عملة واحدة محددة تأتيك طوعا ...

 نفث نفساً من أعماقه مصفوعاً بجرعة وحشية من الّسفن آب ... راح يرسم صورة غار العقرب، ويحدق به، وهو يلقي بالقارورة في سلة المهملات؛ إذ لم تعد لها أهمية تلك الأيام التي كانت تلازم فيه طباخ الكاز والذي كثيراً ما يحتاجها قبل استواء الطبخة بقليل ...

 ابتسم لتلك الأيام، وتذكر خرافة ما كان يشاع بينهم من أن أخبث العقارب السوداء والصفراء تخرج بالإدرار لا بالماء، كما أن عليه أن يتخلص من ضرب أمه التي تكتشف أن قارورة الكاز قد استعملت لإخراج العقرب من خلال قرقعة الماء في الطباخ، فتشبعه جلداً بشحاطتها التي كأنما صنعت للضرب لا للبسها، فاستعاض ببوله، وتهيأ له بالكرع الإضافي من الماء متخلصاً من مطاردة الأم الخائفة على قارورة الكاز وأهميتها !! وعلى زملائه بالحارة أن يكرعوا أكبر كمية ممكنة من الماء، حيث يصطفون جميعا برتل واحد يشبه اصطفاف القوارير في ماكينة البيع، وحيث تبرز بطونهم الممتلئة ماء لإفراغه في جحر العقرب، وكأنهم وصلوا بطفولتهم رتبة المساعد الأول في الجيش العربي السوري.

لم يكن يفكر بالحياء أو الخجل من أقرانه، وهم كذلك، فبراءة الأطفال تثقّفه بأن له استعمالا واحداً هو التبول فقط، فيغدو همه في الإسراع بإخراجه، وقدرته على التهديف في جعل تدفقه في وسط الغار، وما هي سوى لحظات حتى تغيب آخر الفقاعات، ثم تخرج العقرب تلف وتدور على غير هدى ... وهنا يبتسم له الحظ، وما عليه إلا إظهار براعته في شدها من ذيلها بخيط ليجرها كالعربة الفرعونية، ويلهو بها ساعات ممتعة معها قبل أن يدوسها بحذائه، أو يرميها بحجر قاتل ...

حدق بالشاشة طويلا، فلم ير الخيط لكنه ظل يتساءل عن الوسيلة المتبعة في إخراج هؤلاء ؟!!

وهل للمخرج نفس براعته في إخراج العقرب، وبالسرعة ذاتها؟ ...

وتساءل متعجباً هل هناك من يحاسب هذا المخرج على بضع قطرات يفضحها لباسه الداخلي، فتدرك الأم أن ابنها يلعب مع العقارب، أو من قرقعة بقايا الماء في القارورة، فتطارده بشحاطتها، وتتوعده بعقوبة الأب ؟!

أم أن البروستات غدت من تقنيات ثورة الاتصالات، وتقريب الحدث، وجمع الناس في قرية إلكترونية واحدة ؟!!