كثيرا ما نظن حدَّ الاعتقاد أننا واعون بحقيقة الأشياء وأصولها وكنهها وغاياتها ، وقد يكون هذا محض وهم واستعلاء منا ...والمشكل المعرفي يتجسد في قسيم الوعي بين الفردي والجمعي ... نحن واعون في تخصصنا بالموضوع ، وقد لانكون موضوعيين به لأسباب تتعلق بالذات وتوجهاتها لكننا ندركه على أية حال ...بيد أننا نتفاوت في وعينا بالقضايا العامة التي تنتظم بها حياتنا بمعنى أن وعينا الحيوي قد يكون مختلفا في وجهات النظر، وفي الصواب والخطأ والإدراك الدقيق، لكننا لسنا محايدين في الحكم على الأشياء إلا إذا ارتقينا بوعينا، وهذا الارتقاء لايكون بفضل روحية الأدب فينا رغم أهميتها، وإنما نتاج ثقافة صحية عالية وموروث تربوي يرفد هذه الثقافة ... ولايكفي الوعي الفردي في مجتمع يفتقد للثوابت، فهذا يدفع الوعي الفردي إلى زوايا العقم والنسيان والإخفاق ...ويبدو الحل كامنا في تشخيص الواقع واستخراج سلبياته وإيجابياته ووضع الحلول ... وتبدو المعضلة معقدة في مجتمعات الجهل والتلقي والتلقين، وأخطرها ما يكون في السياسات القصدية الإملائية التي تقوم بها دولة مؤدلجة بغرض تلقين ثقافة خدمية دونية وصولية لصناعة النفاق والانتهازية والتدريب على الخيانة؛ ولهذا كانت أنجع الثقافات تلك التي تشيعها دولة انبثقت من الشعب وتعمل لصالحه ...لكن هذا لا يعني انتظار وصول تلك الدولة المثالية الفاضلة، وإنما في زيادة وتيرة النضال لمواجهة تلك التعقيدات، وكلما كان الشعب جادا عارفا بمصالحه تكون صناعة الوعي أسهل سبيلا، وأقل زمنا ... المُشكل المعرفي الأخلاقي في سوريا ينبع من جهل متوراث، ومن ابتعاد واضح عن قيم الإسلام كمكون أخلاقي ثقافي نقي منظم للحياة، كما أن هذا المشكل لم يجد المناخ الصحي للاستشفاء من مرض استفحل في مسيرة طويلة، وإنما زاد الطين بلة حين تسلم البعث العسكري النصيري السلطة في سوريا، وبعد أن أدخل البلد في صراع تصفيات معدة من قبل دوائر صهيونية خرج منها منتصرا بمكون داخلي انحطاطي، ومكون خارجي يطمح إلى تدمير سوريا ... وهنا لابد من التشخيص الجريء الدقيق، فالنصيرية طائفة غبية بتفكيرها وسلوكها ونظرتها للحياة وللآخر ويعتمل بها حقد تاريخي، وانحلال أخلاقي دوني يشكل الخط الرئيس من معتقدها الديني الشركي الإلحادي... كان لابد من انعكاس الانحطاط النصيري على الواقع المتخلف، فأنتج سلوكا مضطربا قبل أن يستقر معظمه على خط الانحراف وفق أخلاقيات أبناء ( أم علي ) ليأخذ شكلا خاليا من القيم الأصيلة، ومن صدق الشخصية وتوازنها وقدرتها على الاستجابة لقيم الأصالة وتبنيها سلوكا حيويا، وكانت الحال السرطانية تتطور نحو الأسوأ عندما أصبحت الرشوة واللصوصية والسقوط والافتراء والكذب وقيم التقرير السري، وخيانة الأمانة الوطنية والفردية، والنفاق الرخيص، واللهاث المقرف خلف مسح أحذية النظام والتنافس في هذا النفاق الرديء للوصولية الانتهازية الانحطاطية الماسخة للشخصية، فوصل المجتمع إلى الحضيض كما نراه في شوارعية مرعبة تتغلغل في كل مكان ...بعد خمسين سنة من التسلط النصيري الغاشم كانت سوريا قد اغتيلت معنويا، وخسرت خمسة أجيال في مجزرة معنوية رهيبة دُمرت بها العقول والسلوكيات، فلم يستفد منها الوطن شيئا؛ إن لم نقل كانت عالة على نفسها، وعلى الوطن ومفرخة لقيم الانحطاط النصيري المقيت، وكان الفرق واضحا في المفارقة الماثلة من دون البحث عن الموازنات المعقدة بين من يعيش داخل سوريا، وبين من هو خارجها في العطاء والإبداع مع ملحوظة مهمة أن الذي بالداخل حين تأتيه فرصة الخروج تبدأ مسيرة عطائه وإبداعه، فالنتيجة تشير إلى أن سوريا تمثل منطقة قتلٍ لكل إبداع...
جاءت الثورة في 2011م في ظل واقع سيىء لامثيل له وبدا للوهلة الأولى في شيوع الروح الثورية تعطُّشُ الناس للحرية والكرامة والقيم الأصيلة المفقودة مصحوبا بحنين جياش للقيم العليا، وكأننا أمام مشهد تاريخي للتوبة نشهد فيه دموع ملحد عاد إلى ربه قبل الموت، أو انتباهة غافل مستهتر قبل الغرغرة، فبدت الثورة السورية وكأنها ثورة إسلامية تحطم أصنام الشرك النصيري، فالتقطها الغرب السافل ليصنع لها الفصائل المتطرفة مستغلا هذا المناخ العاطفي الطبيعي في طبيعيةٍ مُسَلَّم بها : لكل فعل ردُ فعل، فالفعل المهيمن هو نصيري كافر وقح متسلط وظالم ، فلابد أن يكون رد الفعل رفضا لهذا الكفر بكل قيمه، لكن ليس تطرفا وصناعة خارجية واستغلالا لوضع طارىء تتأجج به العواطف... بيد أن خديعة الغرب جعلت الثوار المخلصين يظنون أن النصر لابد من دعم الغرب له مهما كان أسلوبه الملتوي والباعث للريبة... كان هذا مبشرا بالخير وهامشا يمكن العمل من خلاله لإعادة المنظومة الأخلاقية للمجتمع مستثمرين حالة الاستجابة الجامحة لدى المجتمع...
لكن الصاعقة كانت حين تصدت الصهيونية للشعب السوري في مخطط مدروس وفق منهج خبيث، وكشرت عن أنيابها الرافضية وفروخها، ووضعت له خططا تتطور وفق الحدث ومستجداته، وكان من أسوئها تشكيل معارضة فاسدة عملت على بعث الفساد وقيم الانحدار من جديد وبسرعة عجيبة كي تتساوى مع انحطاط النصيرية، بل تتفوق عليه، وبدا هذا في صور متعددة منها تسليم مدنيين لفصائل عسكرية لاعلاقة لهم بالعلوم العسكرية بغض النظر عن حماستهم وإخلاصهم ونواياهم، فهذا يدينهم ولايزكيهم ، ففي بعض الاندفاعات يكمن موت زؤام فظهر على الساحة ما يسمى بقادة جيوش، وقادة فصائل مسلحة، وقادة ألوية حتى أصبحت هذا المواقع مبتذلة لاتعني شيئا مضافا إلى هذا طرد الضباط الشرفاء الوطنيين في معادلة مقروءة النتائج ومعروفة القصد لاتحتاج إلى تفاصيل... وهنا لندع المؤامرة التي حلت على الثورة السورية، فهي لم تعد إبداعا ولا اكتشافا، ولننظر في الوعي وتطوره ضمن مسيرة الثورة... فقد تعرض الوعي الجماهيري إلى شبكة متاهية معقدة النسج بخيوط مختلفة ألوانُها ضربت صميم هذا الوعي حين جعلته مضطربا يضرب على غير هدى ووجهته ليكون وسيلة للفرقة والاختلاف والاحتراب؛ وعي يذهب إلى نفخ الأنا وسحق النحن؛ ولأنه نتيجة مرحلة مضطربة تتضخم فيها الذات القلقة غير المستقرة والفاقدة للرؤيا الصحيحة، فقد غدا الحوار عقيما مملا ومضحكا حين يدخله من لا حظَّ له في آدابه وأصوله؛ ليصبح هذا الحوار للحوار ليس إلا. والكلام لايحمل أي قدسية، ولا مسؤولية، ولا احترام في الأدنى، وسادت البيزنطية العقيمة في أسوأ صورها، وأصبح احترام الرأي الآخر هزيمة لاتليق بصاحبها البالوني المنتفخ جهلا، وهو متقلد سلاح غبائه العقيم، ويظنه معجزة حياته المضطربة، وهو لايعلم، وانتقاصا من تلك الذات البالونية، فقد ترسخ في الأذهان الخاوية أن احترام قيم الحوار للوصول إلى الحقائق اتهام بالجهل ( فأنا ، ولا غيري ) وعار تاريخي على من يشهد لغيره بالحق، فقد تحول إلى ذيلي؟ وحتى لا أطيل عليكم ، وكلكم يدرك عقد النقص والوهم وأساليب الانتقام من الآخرين لتسويغ الإخفاق الذاتي، لابد من الإسراع بالقول : إن أسوأ مرحلة في تاريخ الشعوب هي ( مرحلة الاضطراب ) حيث يبدو الواقع مؤلما في تنافره واختلاقه للسفسطائية المشائية الملفقة، وفي انتاج هذه المرحلة الوفيرة الزبد، ثم في تآلف الأكثرية الجاهلة وتعاضدهم لإحداث هزيمة مجتمعية للثقافة، وإيقاف جهود القلة في المعالجة الصحيحة، وتسويغ إخفاق عصابة تشابهت بحياتها وإخفاقها وانحرافاتها، فأصبحوا ظلالا لماضي أسيف وحاضر يؤزهم كما تؤزهم شياطينهم لتخريب أي عمل صالح... ربما تكون هذه المرحلة أسوأ مرحلة في حياة المثقفين، وهي ما تسمى بمرحلة الاغتراب ، او( الكفر ) بالقيم المجتمعية التافهة السائدة والمهيمنة... وموقف المثقف من مجتمعه، أو موقف المجتمع من هذا المثقف هو موقف اتهامي يمهد لصراع حاد تذهب فيه صرخات المثقفين كصرخة في واد، وكثيرا ما ينتصر الغباء المجتمعي المتراكم على مثقفيه ويطردهم خارجه كما تطرد روائح النفايات المتعفنة المارين بقربها، أو يعذبهم أويغتالهم ماديا ومعنويا... فهم أعجز الناس في مجتمع يقيم الظلم قانونا وسلوكا، والغباء تفكيرا وحلولا؛ ليفسح المجال واسعا أمام ثقافة القطيع المجتر لما رُبِّي عليه، وتلقاه بالتلقين من اتجاه واحد، حيث ينتعش النفاق، وتشمخ الانتهازية والعصاباتية والشوارعية المقيتة والوقاحة الكريهة ....
لنعترف جميعا أن هذه المرحلة تحتاج إلى دراسة عميقة لتشخيصها، ومن ثَم الوصول إلى الثقافة الأصيلة في قتل النفس المريضة في نوازعها الدونية المنفلتة للوصول إلى الشفاء من أمراضها، ومن ثَم قبول التضحية والخروج من مستنقع الموت المعنوي الآسن، واستقبال الحياة بنور يزيل ظلام الماضي ويؤسس للحاضر الواعي المشرق المنتج للأجيال الواعية المتجهة نحو المستقبل بثقة وطمأنينة واحترام كل الخطوات البناءة ...
الشعوب الحية مرت بهذه المرحلة الحتمية، ومازالت أنات مثقفيهم وصرخاتهم تذكر بقسوة هذه المرحلة، لكنهم في النتيجة انتصروا عليها حين انتصروا على ذواتهم ...